Skip to main content
أشرف قاسم قراءة في ديوان «من أغاني الفتى القروي»

يعتبرالشاعر أشرف قاسم واحدًا من شعراء جيل التسعينيات في مصر، صدر له العديد من الأعمال الشعرية، مثل قراءة في كتاب النأي، سهد المصابيح، هذا مقام الصابرين، شفاهك آخر ترنيمة للحياة، ساقية مهجورة، بئر معطلة، طعم الحكايا القديمة، لغات من ضباب الحزن، على شفة من كريز المواجع،وهذا الديوان الذي بين أيدينا «من أغاني الفتى القروي» وغيرها إلى جانب العديد من الدراسات النقدية والحوارات الأدبية. والمتابع لشعر شاعرنا يجده منذ بداية القصيدة معه معنيَّا بالضرورة بهمَّيْن لا ثالث لهما وهو ذلك الفتى القروي الذي يتأرجح بينهما كبندول الساعة ذهابًا وإيابًا ألا وهما: الشعر والوطن.


في البداية نقف أمام عتبة النص العنوان «من أغاني الفتى القروي» ليضعنا الشاعر أمام تساؤلات حول لماذا الغناء وتلك الأغاني وذلك الفتى من جانب؟ وكونه قرويًا يعيش في قرية صغيرة في ريف مصر من جانب آخر؟


همَّان متعانقان في نسق الحياة يحياهما منذ طفولته، ذلك الغناء الذي عاش في وجدانه، وتلك الأغاني التي رافقته ورافقت أبناء قريته في ذهابهم وإيابهم من وإلى الحقل، وفي مواسم الحصاد وغيرها كمعادل موضوعي للقصيدة في هيكلها الجسماني الخاص بهذه البيئة بالذات، والذي يأخذ بأيدينا في مجمله العام في النهاية إلى نسق الشعر، ثم يبدو تساؤلٌ آخرُ حول نعت الفتى بكونه قرويًَّا بالضرورة، ليضع أقدامنا على جذور ذلك الوطن، بما تحمله تلك الجذور من أصالة، وقيم، وتراث منذ أكثر من خمسة آلاف عام، نملكه ونحيا به وله، هكذا كان شاعرنا موفقًا في اختيار عنوان الديوان، حيث وضع أولى خطوات القارئ على عتبة النص ليأخذ بيده مباشرة إلى موضوع الديوان، وهمِّه الشعري، وما يشغله من قضايا يرتب القارئ أوراقه من خلالها، نعم الشعروذاته الشاعرة من جانب، والأرض والوطن من جانب آخر، باعتبارهما جناحيّ الطائرِ الذي يحلق بهما الشاعر في فضاء كونه. ولنقترب قليلًا لنتعرف على كل جناح على حدة، لنكتشف براح التجربة الشعرية ومعالمها لدى شاعرنا أشرف قاسم.


ولنبدأ بالشعر ذلك الحلم الذي شكل وجدان الشاعر منذ نعومة أظافره، فراح يرسم ملامح نبتته البكر كما ينشدها في داخل ذاته، ليغدو حلمه واقعًا يحياه حيث يقول:


«بيدي/ سأرسم وجهة لقصيدتي/ من فتنة الكلمات/ أشعل فتنت/ من شمعدانات المجاز/ ومن دمي/ ومن النجوم النازفات/ بشرفتي/ من ربكة القنديل/ قرب رسائل/ منها يفوح العطر/ يغمر قصتي».


هكذا وضع الشاعر يده على مفتاح قصيدته التي تخصه هو لا غيره من الشعراء, بعدما أدرك شاعريته وصدق توجهه إليها، فنراه في قصيدته «لأنك شاعر» يتوجه فيها بكاف الخطاب إلى الآخر، حيث يعدد لنا أنماط الكتابة بوعي يرسم من خلاله ملامح تجارب الآخرين من الشعراء ممن يبحثون عن القصيدة من خلال نسق شعري عادي، حيث نراه يكرر تيمة واحدة ألا وهي «لأنك شاعر» يرصد بها هذه الأنماط وتلك الملامح،حيث يقول على سبيل المثال:


«لأنك شاعر/ ستحب أنثى/ وتعشق هذه الأنثى/ سواكا!/ لأنك شاعر/ ستموت فردًا/ يشيعك الأسى/ بدم القوافي/ لأنك شاعر/ ستظل تمضي/ إلي وطن خياليِّ الملامح!».


الوطن لدى شاعرنا ليس حدودًا جغرافية تحد أراضيَ نحيا فيها كما عاش فيها الآباء والأجداد، ولكنها روح تهيم في فضاء القلب، قلب من يحيا على أرض هذا الوطن، والمتابع لقصائد شاعرنا يجد أن روح الانتماء تغوص بعمق عمق قصائده لتصل بنا إلى الجذور، تلك الروح التي تعتبر بمثابة معادل موضوعي للوطن ككل، يَعْبُر الشاعر من خلالها إلى وجدان ومشاعرالقارئ ليصل به إلى حقيقة الأوطان في داخل ذاته ليشاركه في حب الوطن والحفاظ عليه.


ولعل أول محطة ترسو عليها سفينة المحبة للوطن هي الجذور، تلك التي نبتت وتأصلت في أرض هذا الوطن، فنجد الشاعر يضع أيدينا على تلك النبتة حين يتحدث عن والده كمعادل موضوعي لهذه الجذور، وذاك الوطن، فهو يرث من أبيه صفاته وجيناته الوراثية، كما يرث من وطنه القيم والأخلاق والعادات والتقاليد التي نمت في تلك البقعة من الأرض، وتأصلت مع التاريخ، وبمرور الزمن، وحفظها الشعب لتصل إليه كما هي، فجاء بهذا التناص الرائع بين أبيه والوطن، حيث يؤكد ذلك في قصيدته «مرثية شخص لن يموت» لنجد أنفسنا أمام عنوان القصيدة فهي مرثية لشخص حي لم يمت، وكذلك الأوطان حية باقية لاتموت، ونجد الشاعر في إهداء القصيدة يقول:


«إلى روح أبي عليه السلام» حيث وفق تمامًا في نعت والده بتلك الصفة التي يشاركه فيها الأنبياء والرسل عليهم السلام، والذين عاشوا من قبل في تلك البقعة من الأرض، حيث نجد أن السلام يخص تلك الأرض المباركة وأهل تلك الأرض من البشر، فهو يشير إلى أرض قريته التي عاش فيها في أمن وسلام، ولم يبرحها حتى الآن حيث يقول:


«قد كان يعشق أرضه/ وأديمها كم ضمه/ وشجيرة الصفصاف واحته/ التي في حضنها يأوي/ يقيم صلاته..»


وقد عبر لنا شاعرنا عن أصالته التي تحملها جذوره منذ آلاف السنين، كما يحملها الوطن، ولذا كان من الضروري أن يغني له وهو العاشق لأديم أرضه وترابه، فيؤكد ذلك من خلال قصيدة له بعنوان «أغنية إلى أبي» ليستحضر والدهمن جديد، كمعادل موضوعي لذلك الحبيب «الوطن» في تناص يصوغ من خلاله حقيقة الأوطان، في ذاته الشاعرة، من جانب، وواقع يحياه ويحيا به وله في محبة لهذا الوطن من جانب آخر، حيث يقول:


«لأبي../ لأغنية الزمان المستطاب الطيب/ ليدين يسكن فيهما نور النبي!/ مازلت أبحث عن ضيائك/ كي تنير غياهبي/ أمي أراها كلما حدثتها/ تنساب في سرد الحكايا/ والزمان الذاهب».


ويظل الفتى القروي المعلق في فضاء كونه، ويتأرجح فيه كبندول الساعة، بين همَّيِ ذاته الشاعرة، وحبه لوطنه، حتى يلتقط أنفاسه في لحظة هي من أهم لحظات الإشعاع الروحي والعبق الشعري، في منتصف حركة النص من جانب وسكون هموم شاعرنا في ذاته المتعبة من جانب آخر، لحظة التوازن النفسي والعقلي مع واقعه المعاش، وحلمه الذي يرجو تحقيقه، فيمسك بتلابيب اللحظة معبرًا عنها بوعي وصدق في قصيدته «من أغاني الفتى القروي» حيث يقول:


«هذا الفتى القروي/ يكتب حزنَهْ/ فيثير شجْوُ غِناهُ/ دمعَ المُزْنةْ/ يرعى شياهَ الليل/ يرحل في الأسى/ لكنه للحب يفتح حِضْنَهْ!/ وكأنه/ - والعمر يرحل في الضنى -/ من جمرة الأحزان/ يرسم عَدْنَهْ».


إنها ذاته الشاعرة، التي تؤرقه ليل نهار، يأتي بها كلُحْمة لهذا الفتي القروي ولابد لها من سُداة، فتكون محبته لتلك الأرض التي يخاصمه في حبها الأحباب والأعداء حيث يقول:


بعصاي يا ولدي أهش على الشياه/ بيدي رغيف يابس../ كقلوب أرتال الطغاة!/ من بئر هذي الأرض ماء كرامتي/ أرض مقدسة/ يباركها الإله!/ ولذا على طول المدى/ ستظل أغنية الحياة/ برغم أحزان الحياة!».


وبعدما جمع شاعرنا بين لحمته وسداته، أصبح النص قادرًا على المواجهة، يعبرعن حلمه وواقعه الذي يحياه، في سهولة ويسر، ليصبح نموذجًا يحتذى به لكل من أحب هذا الوطن وعشق ترابه، حيث يقول:


ستقول عاشقة لعاشقها: كفى/ فيرد: يا ليلى فؤادي ما اكتفى/ كفاك شاطئ راحتي/ عيناك مرسى رحلتي/ قلبي إذا خانوا وفى!».


وبعد.. فقد استمتعت حقيقة بهذه المجموعة الشعرية النابضة بحلم شاعرنا وأريج ذاته الشاعرة، والتي عبرت بصدق ووعي تامين عن رؤيته الصادقة للقصيدة، وملامح نصه الشعري الذي اكتمل بين يديه، وأصبح بإمكانه أن يواجه به الآخر في كل زمان ومكان.

 

 

 

 

المصدر: الدستور

22 Oct, 2021 06:13:59 PM
0

لمشاركة الخبر