تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
ديوان «تفاحة على المائدة

عبد الحسين الشيخ علي - 


وحيد أبو الجول كاتب إحساسه بألم المكان والزمان الغائر دفعه إلى أن يُحكم قبضته على المفردات لتشكيل الأنساق الداخلية ضمن سياق القصيدة بشكل عام، كما انه ترك لمشاعره الحرية في الاتساع أفقيا وعموديا، ومضغ الجمل النثرية بقلبه المتألم من وحدة الفراغ وفراغ الوحدة غير مبالٍ بالضجيج ليجعل من صوت قلبه الوحيد الذي يسمعه ويتصدر الجُرح، واعني بــ (وحدة الفراغ وفراغ الوحدة) هنا بمعنى الولوج في عالمه الخاص وحده، والفراغ هو المساحة التي صنعها لنفسه وكينونته الوجدانية فتراه كأنه يُغمس جمله بوجعه وبالعكس، لذلك نجد قصائده ذاتية المنطلق ويرى الأشياء وما يدور حوله بعين الوجع (القلب المتوجع) ومن خلال ذاتيته بعقلانية الوجدان ومحاولته للدخول في عالم الماورائيات الحسية من خلال الانزياحات النثرية.

 

قراءة افتراضية

ومن منظور ثقافي يأتي التساؤل؟ هل ان الكتابة لدى ابو الجول هي خيار خاص، هو فعلا خيار خاص أم انه توجيه قسري لقوى لا سيطرة لنا عليها بمعنى التكرار بالاحداث الخارجية كنمط مستمر بجميع جوانبه، ما هي الا افعال تستوجب ردات فعل لا ارادية للرفض. سنحاول بافتراض توقعي من خلال التجوال في واحدة من قصائده كقراءة افتراضية لها. ففي قصيدته (حطب المسافة) هي جملة انزياحية فما هي التلازمية بين عتبة القصيدة والنسق الداخلي، فالحطب أعْوَادَ الشَّجَرِ الْمُتَنَاثِرَةَ الجافة المعدومة الحياة والمسافة لها عدة مداليل، لكنها تتوضح في بداية القصيد في (لن أتذكر شيئاً بعد ثلاثين عاماً)، فالمسافة ربما تعني المدة العمرية التي مضى منها والاتي فيتبين المعنى للعنوان _ حَطب = لا حياة والمسافة = العمر المتبقي، يظهر القلق لدى الشاعر ويُجزم بكلمة (لن) فهو توقع اما بالخروج من هذه الحياة وهو نتيجة حتمية او ربما يفقد الذاكرة ان طال به العمر بعد ثلاثين عاما ان حالفه الحظ ولم يمت، حيث يشبه موته كــ ورقة من تويج الزهرة (بتلة) من شدة الحزن، وهنا يبدأ التأمل لديه كمفهوم انطباعي لنهاية اي انسان وهو الموت، لكنه يتأمل حاله ملقى على السرير، وهو تأمل افتراضي غير مقرر لاحتجاب الغيب والاتي، لكنه افتراض واقعي لمفهوم مسبق بتعددية الاسباب التي تؤدي الى الموت.

 

تأملات وأحاسيس

 

يتابع الشاعر تأملاته ليصف لنا ما سيؤول اليه من حال فكلمة (لن)، وهي اداة نصب نافية بانه لن يستطيع ان يلمح عن قرب ظلال اصابع يده، بمعنى انه سيصاب بالوهن، لكنه لماذا ادخل كلمة (ظلال) لربما عدم القدرة على تحريك اصابعه بمعنى الفقدان التام للاحساس او الشعور حتى يرى ظلالها، ثم يُتبعها بقوله (ولا سراب العطور)، وهي جملة غير مألوفة (انزياحية) وهو ايحاء اخر للعجز في الدخول في تفاصيل وماهيات الاشياء المرئية، لكنها غير حقيقية بمعنى (اللاشيء) وهو السراب، والعطر هو دلالة على حاسة الشم بمعنى اوجز انه يتأمل جسده المسجى فقط يتمايل على وسادة، وهو غارق وفي قلبه اثار جروح الحياة لا يدري بعدد الايام، كانه في غيبوبة وشبهها بــ (كمن يغرق رأسه في الهواء) وبما ان الحواس في الرأس فقد تأمل الحال بهذا الغرق الذي يؤدي الى عدم التذكر، لكنه يحمل على كتفه هشيم الاحلام قبل تلك الثلاثين عاما، ولم تكن شيئا يُذكر، وهذا الهشيم من الاحلام هو كل ما سيذهب معه الى مثواه الاخير بسريالية الوجع.

 

وهو بصوته الوعر بمعنى صعوبة النطق وسهولته، وهنا يتأمل التداعي اكثر فاكثر، وهي وصف لحالة الاحتضار، فاخر ما يتبقى من المحتضر هو الصوت، الذي لا يكاد يُفهم، وهذا الصوت الوعر هو آخر مرحلة بعدها يتسلل الموت اليه ببرودته ويغشاه السكون فتضيع ملامح الاشياء من حوله بعدها يكون صورة مُعلقة على جدران غرفته مع من سبقه (كهذه الشواطئ المعلقة على جدران غرفة نومي) ثم تبدأ رحلة أخرى الى عالم آخر، ويختم القصيدة بتلك الجملة التي تختصر الحياة كانها حطب المسافة كما اسلفنا (حطب المسافة بين ذرتين من الغبار) بين ولادة وموت...

 

خاتمة

تعتبر قصيدة (حطب المسافة) من القصائد الذاتية، التي تنطلق من فلسفة خاصة بالشاعر، وقد انطلق من مفردة التأمل في واحدة من الحالات التي يمر بها الفرد كردة فعل من خلال الوصف والتوقع الافتراضي، اما من الناحية الفنية فتميزت القصيدة بالانزياحات المبهمة، لكن في بعض من جملها تفصح عن المعنى الاصطلاحي الذي يُريد ايصاله الشاعر.

كذلك صورة غلاف الديوان بخلفية لون سمائي غامق الى فاتح اللون وسطه تفاحة حمراء يعطي تصورا وانطباعا عن الاغتراب ربما فتفاحة حمراء يغشاها لون ابيض غامق يشوه لون التفاحة، كذلك اللطخة على جانبها تزيد من تشوهها في هذا الكون الفسيح الازرق، اما اسم الديوان (تفاحة على المائدة) فلها دلالات عديدة جعلها الكاتب مفتوحة لجميع التوقعات والتأويلات.

 

 

 

 

المصدر: القبس الثقافي 

16 يناير, 2022 01:43:29 مساء
0